مآلات الحرب في المنطقة العربية
يمنات
عبد الباري طاهر
يعتبر القرن العشرون في جانب كبير منه عصر حروب خاصة في المنطقة العربية؛ فهناك امتداد الحربين الكونيتين الأولى 1918 – 1914 والثانية 1945 – 1939، وقد امتدت آثارهما إلى معظم البلاد العربية: مصر، ليبيا، العراق، وسوريا أو بالأحرى الشام، واليمن، والحجاز، وكان من ثمارهما المرة الكريهة اتفاقات “سايكس بيكو 1916″، و”وعد بلفور 1917″، وتكوين العديد من الأنظمة العربية وفق المصالح والحدود التي رسمها الإستعمار.
وعد بلفور أثمر قيام الكيان الإسرائيلي في جزء من الأرض الفلسطينية؛ فكانت حرب 48 وما تلاها من انقلابات عسكرية كرد على نكبة 48، كما يسميها المفكر القومي، قسطنطين زريق. وهناك حرب التحرير الجزائرية، ومقاومة ليبيا ضد الإستعمار الإيطالي، ثم هزيمة 67 وما تلاها أيضاً، وظهور المقاومة الفلسطينية، والحرب الجمهورية – الملكية في الشمال اليمني، والتي انخرطت فيها مصر والسعودية وأطراف أخرى، وحرب التحرير في الجنوب ضد الإستعمار البريطاني، وحرب 1934 بين اليمن والسعودية، وهناك عشرات الحروب سواء بين الأنظمة العربية أو داخل كل قطر على حدة، وآخرها وأخطرها الحرب بين العراق وإيران، واجتياح العراق للكويت، ثم الحرب الدولية التي شاركت فيها بعض الأنظمة العربية ومهدت لمسار الحروب المستدامة والمتطاولة حتى اليوم. ربما كان اليمن أكثر عرضة للحروب الداخلية المقيتة، من حرب 72 إلى حرب 78، وحروب المنطقة الوسطى ،وحرب 94 بين الشمال والجنوب، وحروب صعدة الستة وصولاً إلى الحرب الحالية.
لا شك أن الحروب – ولبعضها طبيعة وطنية وقومية في مواجهة الإستعمار والصهيونية – والإنقلابات العسكرية على أهمية ومشروعية بضعها، والصراعات الداخلية، كلها قوت وشرعنت إعطاء الأولوية للإعتماد على القوة العسكرية، والميل نحو الغلبة والقوة، وغيبت الحرية والديمقراطية، وجرمت وصادرت حرية الرأي والتعبير فـ”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. تراجعت برامج التنمية، وهُمّش التعليم الحديث والتطبيب والحياة المدنية، ولم يُقض على الجهل والفقر والمرض؛ فالأولوية والموازنة العامة والهيمنة المطلقة للقوة العسكرية المسؤولة وحدها عن حماية الوطن والسيادة والإستقلال، وأيضاً حماية قيم المجتمع وعاداته وتقاليده.
تحت مبرر مقاومة الرجعية والإستعمار، جرت عسكرة الحياة وفرض الإستبداد والفساد، وعُزلت المنطقة كلها عن روح العصر وتيارات الحداثة. أما الأنظمة التقليدية والمحافظة فعزلت شعوبها بحجة الحفاظ على الدين والقيم الدينية بعيداً عن البدعة والأفكار المستوردة، وبحجة محاربة الإلحاد والشيوعية، وجرى فيها توظيف سلاح الدين والخصوصية للحفاظ على الطبيعة القبلية والرجعية، وقمع ومصادرة الحريات الديمقراطية ومن باب أولى حرية الرأي والتعبير. وهمشت الأنظمة القومية ذات القبعة العسكرية السياسة، وحظرت التعدد الحزبي ما عدا حزب الحكم، وحالت دون تسييد قيم الحرية والديمقراطية والعدالة حتى وهي تغلو في الدعوة إليها.
توزعت الأنظمة العربية على قطبي الصراع الدولي، وانخرطت في صراعاته ومول بعضها معاركه في غير مكان، وانحاز البعض للطرف الآخر، ولكنها في النهاية ظلت في الهامش ولم تحقق أي نفع أو تقدم حقيقي لصالح أوطانها. ظل الجنوح للقوة والإستناد إليها وتغذية الحروب والصراعات، سواء ضد العدو الأجنبي أو ضد بعضها البعض، النهج العام والوسيلة المثلى للإستنقاع في السلطة والدفاع عنها، وبديهي أن شراء السلاح وبناء قوات عسكرية جلها آت من المناطق القبلية والعشائرية والأكثر تخلفاً وبداوة هو السمة العامة والمشتركة لمعظم الجيوش العربية.
غرب نجم القرن الماضي، وولجنا إلى القرن الواحد والعشرين، والمنطقة غارقة في مستنقعات الحروب والصراع الخائب والدموي. في 6 ديسمبر من العام 1987، انطلقت “ثورة الحجارة”، وهي أول تجربة من نوعها في الوطن العربي الكبير، وربما في العالم، وفي مواجهة غول الفاشية الإسرائيلية ذات الأسنان النووية. خلال شهور قليلة حققت الإنتفاضة الفسلطينية التي شارك فيها بفعالية أطفال فلسطين ما لم تحققه الجيوش العربية وتحديداً جيوش دول المواجهة في ثلاثة حروب كبيرة، وخلال ما يقرب من نصف قرن، وما لم تحققه عشرات المنظمات الفلسطينية. جرى الإلتفاف على الانتفاضة التي لفتت أنظار العالم، وحظيت بالمساندة والتأييد في العديد من عواصم بلدان العالم حتى المؤيدة لإسرائيل؛ فكانت اتفاقات مدريد وأوسلو بداية خنق هذه الإنتفاضة ومن ثم عسكرة الإنتفاضة الثانية التي أعطت الجيش الإسرائيلي المبرر لقمعها.
لعب “حزب الله” دوراً كبيراً في مقارعة آلة الحرب الجهنمية الإسرائيلية وطردها من جنوب لبنان، ولكن الحرب في سوريا قد أزالت تهديد “حزب الله” الذي انجر إلى الصراع الداخلي في لبنان ثم في سوريا.
كانت الإنتفاضة الفلسطينية الأولى بداية بشائر “الربيع العربي”، ودللت على صدق نبوءة الفنان التشكيلي، ناجي العلي، على فاعلية الحجر في قهر آلة الحرب الإسرائيلية. الطابع السلمي للثورة الفلسطينية اتخذ الصيغة المثلى بعد بضعة أعوام في الإحتجاج المدني السلمي الذي أشعله إحراق البوعزيزي لنفسه ضد سلطة الفساد والقمع التونسية، ليشعل الحريق المنطقة العربية كلها.
انخراط أحزاب وأطراف سياسية في هذه الإنتفاضات السلمية جر الإحتجاج مجدداً إلى مربع “قوى الغلبة والقوة” في المنطقة كلها باستثناء تونس؛ بفضل وعي الجيش التونسي، والإلتزام بالدستور، ويقظة الأحزاب السياسية، وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني والنقابات (الإتحاد العام التونسي للشغل).
الإحتجاج السلمي المدني أثبت فشل وفساد الحروب والعنف الموظف والموجه بالأساس ضداً على الداخل. في الغالب الأعم، كان بناء هذه الجيوش الجرارة لقهر الداخل الوطني المعارض، وفي أحسن الأحوال لمواجهة بعضها البعض، والأمثلة كثيرة. وحتى عندما تُفرض عليها المواجهة مع العدو الخارجي، فإن طبيعة تكوينها لا تتيح لها الصمود.
كانت الإنقلابات القومية في منتصف القرن الماضي موجهة ضد الرجعية والإستعمار في المدى المنظور، ولكنها في جانب آخر وأبعد مثلت القطع أمام التطور الديمقراطي والتعددية السياسية والفكرية وعجزت عن التحول إلى الشرعية الديمقراطية التي التزمت بها في البيان رقم 1.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا